كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ولما هيأ الأرض لما يراد منها ذكر ما أودعها، وهو النوع الثاني: بقوله تعالى: {وبارك فيها} أي: بما خلق من البحار والأنهار والأشجار والثمار وغير ذلك، وقال ابن عباس: يريد شق الأنهار وخلق الجبال وخلق الأشجار والنار وخلق أصناف الحيوانات وكل ما يحتاج إليه من الحيوانات، النوع الثالث: قوله تعالى: {وقدر فيها أقواتها} أي: أقوات أهلها بأن عيّن لكل نوع ما يصلحه ويغني به، وقال محمد بن كعب: قدر الأقوات قبل أن يخلق الخلق والأبدان أي: أقواتًا تنشأ منها بأن خص حدوث كل قوت بقطر من أقطارها، فأضاف القوت إلى الأرض لكونه متولدًا من تلك الأرض حادثًا فيها لأن النحاة قالوا: يكفي في جنس الإضافة أدنى سبب، فالشيء يضاف إلى فاعله تارة وإلى محله أخرى، أي: قدر الأقوات التي يختص حدوثها بها وذلك لأنه تعالى جعل كل بلدة معدة لنوع من الأشياء المطلوبة حتى أن أهل هذه البلدة يحتاجون إلى الأشياء المتولدة في تلك البلدة وبالعكس، فصار هذا المعنى سببًا لرغبة الناس في التجارات واكتساب الأموال لتنتظم عمارة الأرض كلها باحتياج بعضهم إلى بعض، فكان جميع ما تقدم من إبداعها وإيداعها ما ذكر من متاعها دفعة واحدة على مقدار لا يتعداه ومنهاج بديع دبره في الأزل وارتضاه وقدره فأمضاه لا ينقص عن حاجة المحتاجين أصلًا، وإنما ينقص توصلهم أو توصل بعضهم إليه فلا يجد له حينئذ ما يكفيه، وفي الأرض أضعاف كفايته.
ثم ذكر فذلكة خلق الأرض وما فيها. فقال تعالى: {في أربعة أيام} أي: مع اليومين الماضيين كقولك بنيت بيتي في يوم وأكملته في يومين أي: بالأول، وقال أبو البقاء: في تمام أربعة أيام ولولا هذا التقدير لكانت ثمانية، يومان في الأول وهو قوله تعالى: {خلق الأرض في يومين} ويومان في الآخر وهو قوله تعالى: {فقضاهن سبع سموات في يومين} وأربعة في الوسط وهو قوله تعالى: {في أربعة أيام}، فإن قيل: إنه تعالى ذكر خلق الأرض في يومين فلو ذكر أنه خلق هذه الأنواع الثلاثة الباقية في يومين آخرين كان أبعد عن الشبهة وعن الغلط فلم ترك التصريح بذكر الكلام المجمل؟
أجيب: بأن قوله تعالى: {في أربعة أيام سواء} أي: استوت الأربعة استواء لا يزيد ولا ينقص فيه فائدة زائدة على ما إذا قال خلقت هذه الثلاثة في يومين لأنه لو قال تعالى خلقت هذه الأشياء في يومين لا يفيد هذا الكلام كون اليومين مستغرقين بتلك الأعمال لأنه قد يقال عملت هذا العمل في يومين مع أن اليومين ما كانا مستغرقين بذلك العمل بخلافه لما ذكر خلق الأرض وخلق هذه الأشياء، ثم قال: {في أربعة أيام سواء} دل على أن هذه الأيام الأربعة صارت مستغرقة في تلك الأعمال من غير زيادة ولا نقصان.
ولم يفعل تعالى ذلك في أقل من لمح البصر مع تمام القدرة عليه لأن هذا أدل على الاختيار وأدخل في الابتلاء والاختبار ليضل به كثيرًا ويهدي به كثيرًا فيكون أعظم لأجورهم لأنه أدل على تسليمهم، وجعل مدة خلقها ضعف مدة خلق السموات مع كونها أصغر من السموات دلالة على أنها هي المقصودة بالذات لما فيها من الثقلين الإنس والجن، فزادت لما فيها من كثرة المنافع وتباين أصناف الأعراض والجواهر لأن ذلك أدخل في المنة على سكانها والاعتناء بشأنهم وشأنها وزادت أيضًا لما فيها من الابتلاء بالمعاصي والمجاهدات والمجادلات والمعالجات كل ذلك دلالة على أن المدة ما هي لأجل القدرة بل لأجل التنبيه على ما في القدرة من المقدور وعجائب الأمور.
قال البقاعي: ولعل تخصيص السماء بقصر المدة دون العكس لإجراء أمرها على ما نتعارفه من أن بناء السقف أخف من بناء البيت، تنبيهًا على أنه بنى أمر دارنا هذه على الأسباب تعليمًا للتأني وتدريبًا للسكينة والبعد عن العجلة، وقوله تعالى: {للسائلين} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أنه متعلق بسواء بمعنى مستويات للسائلين، ثانيها: أنه متعلق بقدر أي: قدر فيها أقواتها لأجل الطالبين لها المحتاجين المقتاتين، ثالثها: أنه متعلق بمحذوف، كأنه قيل: هذا الحصر لأجل من سأل في كم خلقت الأرض وما فيها.
ولما كانت السموات أعظم من الأرض في ذاتها باتساعها وزينتها ودوران أفلاكها وارتفاعها، نبه على ذلك بالتعبير بأداة التراخي ولفظ الاستواء وحرف الغاية الدال على عظم الغاية فقال تعالى: {ثم استوى} أي: قصد قصدًا، هو القصد منتهيًا قصده {إلى السماء وهي} أي: والحال أنها {دخان} قال المفسرون: هذا الدخان بخار الماء وذلك أن عرش الرحمن كان على الماء قبل خلق السموات والأرض كما قال تعالى: {وكان عرشه على الماء} (هود: 7).
ثم إن الله تعالى أحدث في ذلك الماء اضطرابًا فأزبد وارتفع فخرج منه دخان فأما الزبد فبقي على وجه الماء فخلق منه اليبوسة وأحدث منه الأرض وأما الدخان فارتفع وعلا فخلق منه السموات، فإن قيل: هذه الآية مشعرة بأن خلق الأرض كان قبل السموات وقوله تعالى: {والأرض بعد ذلك دحاها} (النازعات: 30) مشعر بأن خلق الأرض بعد خلق السموات وذلك يوجب التناقض؟.
أجيب: بأن المشهور أنه تعالى خلق الأرض أولًا ثم خلق بعدها السموات ثم بعد خلق السماء دحا الأرض ومدها حينئذ فلا تناقض، قال الرازي: وهذا الجواب مشكل لأن الله تعالى خلق الأرض في يومين، ثم إنه في اليوم الثالث جعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها، وهذه الأحوال لا يمكن إدخالها في الوجود إلا بعد أن صارت الأرض منبسطة، ثم إنه تعالى قال بعد ذلك ثم استوى إلى السماء فهذا يقتضي أن الله تعالى خلق السماء بعد خلق الأرض وبعد أن جعلها مدحوة وحينئذ يعود السؤال ثم قال: والمختار عندي أن يقال: خلق السماء مقدم على خلق الأرض وتأويل الآية أن يقال الخلق ليس عبارة عن التكوين والإيجاد والدليل عليه قوله تعالى: {إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون} (آل عمران: 59) فلو كان الخلق عبارة عن الإيجاد والتكوين لصار تقدير الآية أوجده من تراب ثم قال له كن فيكون وهذا محال، فثبت أن الخلق ليس عبارة عن الإيجاد والتكوين بل عبارة عن التقدير، والتقدير في حق الله تعالى هو: كلمته بأن سيوجده، وإذا ثبت هذا فنقول قوله تعالى: {خلق الأرض في يومين}: معناه: أنه قضى بحدوثها في يومين وقضاء الله تعالى أنه سيحدث كذا في مدة كذا لا يقتضي حدوث ذلك الشيء في الحال فقضاء الله تعالى بحدوث الأرض في يومين قد تقدم على إحداث السماء حينئذ يزول السؤال.
{فقال لها} أي: السماء عقب الاستواء {وللأرض ائتيا} أي: تعالىا وأقبلا منقادتين وقوله تعالى: {طوعًا أو كرهًا} مصدران في موضع الحال أي: طائعتين أو كارهتين {قالتا أتينا} أي: نحن وما فينا وما بيننا {طائعين} أي: أتينا على الطوع لا على الكره، والغرض تصوير أثر قدرته في المقدورات لا غير من غير أن يحقق شيئًا من الخطاب والجواب، ونحو ذلك قول القائل: قال الجدار للوتد لم تشقني قال الوتد سل من يدقني، فإن قيل: هلا قال طائعتين على اللفظ أو طائعات على المعنى لأنهما سموات وأرضون؟
أجيب: بأنه لما جعلهن مخاطبات ومجيبات ووصفهن بالطوع والكره قال: طائعين في موضع طائعات نحو قوله ساجدين.
تنبيه:
جمع الأمر لهما في الإخبار لا يدل على جمعه في الزمان بل قد يكون القول لهما متعاقبًا، فإن قيل: إن الله تعالى أمر السماء والأرض فأطاعتا كما أن الله تعالى أنطق الجبال مع داود عليه السلام فقال تعالى: {يا جبال أوّبي معه والطير} (سبأ: 10) وأنطق الأيدي والأرجل فقال تعالى: {يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون} (النور: 24) وقوله تعالى: {وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء} (فصلت: 21) وإذا كان كذلك فكيف يستبعد أن يخلق الله تعالى في ذات السموات والأرض حياة وعقلًا ثم يوجه الأمر والتكليف عليهما؟.
ووجه هذا بوجوه؛ الأول: أن الأصل حمل اللفظ على ظاهره إلا أن يمنع منه مانع وههنا لا مانع، الثاني: أنه تعالى جمعها جمع العقلاء فقال تعالى: {قالتا آتينا طائعين} الثالث: قوله تعالى: {إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها} (الأحزاب: 72) وهذا يدل على كونها عارفة بالله تعالى عالمة بتوجه تكليف الله تعالى، وأجاب الرازي عن هذا: بأن المراد من قوله تعالى: {ائتيا طوعًا أو كرهًا} الاتيان إلى الوجود والحدوث والحصول وعلى هذا التقدير، فحال توجه هذا الأمر كانت السموات والأرض معدومة إذ لو كانت موجودة لم يجز، فثبت أن حال توجه هذا الأمر كانت السموات والأرض معدومة وإذا كانت معدومة لم تكن عارفة ولا فاهمة للخطاب فلم يجز توجه الأمر إليها.
فإن قيل: روى مجاهد وطاووس عن ابن عباس أنه قال: قال الله للسموات والأرض: أخرجا ما فيكما من المنافع لمصالح العباد أما أنت يا سماء فاطلعي شمسك وقمرك ونجومك، وأنت يا أرض فشقي أنهارك وأخرجي ثمارك ونباتك وقال لهما: افعلا ما أمرتكما طوعًا وإلا ألجأتكما إلى ذلك حتى تفعلاه، وعلى هذا لا يكون المراد من قوله: {أتينا طائعين} حدوثهما في ذاتهما، بل يصير المراد من هذا الأمر أن يظهر ما كان مودعًا فيهما؟
أجيب: بأن هذا لم يثبت لأنه تعالى قال: {فقضاهن} أي: خلقهن خلقًا إبداعيًا {سبع سموات} وهذا يدل على أن حصول السماء إنما حصل بعد قوله ائتيا طوعًا أو كرهًا.
تنبيه:
الضمير للسماء على المعنى كما قال تعالى: {طائعين} ونحوه {أعجاز نخل خاوية} (الحاقة: 7) ويجوز أن يكون ضميرًا مبهمًا مفسرًا بسبع سموات، وسبع سموات حال على الأول، وتمييز على الثاني، وقوله تعالى: {في يومين} قال أهل الأثر: إن الله تعالى خلق الأرض يوم الأحد والاثنين وخلق سائر ما في الأرض يوم الثلاثاء والأربعاء وخلق السموات وما فيها في يوم الخميس والجمعة وفرغ في آخر ساعة من يوم الجمعة فخلق آدم عليه السلام وهي الساعة التي تقوم فيها القيامة، ولذلك لم يقل هنا سواء ووافق هذا آيات خلق السموات والأرض في ستة أيام، وعن ابن عباس رضي الله عنه: أن اليهود أتت النبي صلى الله عليه وسلم فسألته عن خلق السموات والأرض فقال: «خلق الله الأرض يوم الأحد والاثنين، وخلق الجبال وما فيهن من المنافع يوم الثلاثاء، وخلق يوم الأربعاء الشجر والماء والمعايش والعمران والخراب فهذه أربعة، وخلق يوم الخميس السماء، وخلق يوم الجمعة النجوم والشمس والقمر والملائكة إلى ثلاث ساعات بقين منه فخلق في أول ساعة من هذه الثلاثة الآجال حتى يموت من مات، وفي الثانية ألقى الآفة على كل شيء مما ينتفع به، وفي الثالثة خلق آدم فأسكنه الجنة وأمر إبليس بالسجود له وأخرجه منها في آخر ساعة» قالت اليهود: ثم ماذا يا محمد؟ قال: «ثم استوى على العرش» قالوا: قد أصبت لو أتممت قالوا: ثم استراح، فغضب النبي صلى الله عليه وسلم غضبًا شديدًا فنزل {ولقد خلقنا السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب فاصبر على ما يقولون}، فإن قيل: اليوم عبارة عن النهار والليل وذلك إنما يحصل بطلوع الشمس وغروبها وقبل حدوث السموات والشمس والقمر كيف يعقل حصول اليوم؟.
أجيب: بأن معناه أنه مضى من المدة ما لو حصل هناك فلك وشمس لكان المقدار مقدار اليوم كما مر، وقضاء الشيء إتمامه والفراغ منه قال ابن جرير: وإنما سمي الجمعة لأن الله تعالى جمع فيه خلق آدم وخلق السموات والأرض أي: فرغ من ذلك وأتمه {فأوحى} أي: ألقى بطريق خفي وحكم بثبوت قوي {في كل سماء أمرها} أي: الأمر الذي دبرها ودبر منافعها به على نظام محكم لا يختل وزمام مبرم لا ينحل، وقال عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما: خلق في كل سماء خلقها من الملائكة وما فيها من البحار وجبال البرد وما لا يعلمه إلا الله تعالى. وقال السدي: يعني خلق فيها شمسها وقمرها ونجومها ولله في كل سماء بيت تحج إليه وتطوف به الملائكة كل واحد منها مقابل للكعبة بحيث لو وقعت منه حصاة لوقعت على الكعبة.
ولما عم خص التي تلينا إشارة إلى تشريفنا فقال تعالى صارفًا القول إلى مظهر العظمة تنبيهًا على ما في هذه الآية من العظم {وزينا} أي: بما لنا من العظمة {السماء الدنيا} أي: القربى إليكم لأجلكم {بمصابيح} وهي النيرات التي خلقها الله في السموات وخص كل واحدة بضوء معين وسير معين وطبيعة معينة لا يعلمها إلا الله تعالى ولا ينافي كون الدنيا مزينة بذلك أن تكون النجوم في غيرها مما هو أعلى منها لأن السياق دل على أنها زينة.
وقوله تعالى: {وحفظًا} في نصبه وجهان؛ أحدهما: أنه منصوب على المصدر بفعل مقدر أي: وحفظناها بالثواقب من الكواكب حفظًا، والثاني: أنه مفعول من أجله على المعنى فإن التقدير: وخلقنا الكواكب زينة وحفظًا قال أبو حيان: وهو تكلف وعدول عن السهل البين، والمعنى: وحفظناها من الشياطين الذين يسترقون السمع بالشهب أو من الآفات {ذلك} أي: الأمر الرفيع والشأن البديع {تقدير العزيز} أي: الذي لا يغلبه شيء وهو يغلب كل شيء، {العليم} أي: المحيط علمًا بكل شيء فالعزيز إشارة إلى كمال القدرة والعليم إشارة إلى كمال العلم.
ولما كان المتمادي على إعراضه كأنه جدد إعراضًا غير إعراضه الأول قال تعالى مفصلًا بعد قوله تعالى: {فأعرض أكثرهم} {فإن أعرضوا} أي: استمروا على إعراضهم بعد هذا الشأن أو أعرض غيرهم عن قبول ما جئتهم به من الذكر بعد هذا البيان الواضح في هذه الآيات التي دلت على الوحدانية والعلم والقدرة وغيرها من صفات الكمال أتم دلالة {فقل} أي: لهم {أنذرتكم صاعقة} أي: فحذرهم أن يصيبهم عذاب شديد الوقع كأنه صاعقة {مثل صاعقة عاد وثمود} وقال المبرد: الصاعقة المرة المهلكة لأي شيء كان والإنذار التخويف، وإنما خص هاتين القبيلتين لأن قريشًا كانوا يمرون على بلادهم.
ثم علل إيقاع ذلك بقوله تعالى: {إذ} يجوز أن يكون ظرفًا لصاعقة وظرفيته لا تنافي عليته أي: حين {جاءتهم} أي: عادًا أو ثمود {الرسل} لأن الزمان الطويل يجوز نسبة ما وقع في جزء منه إليه {من بين أيديهم} أي: من قبلهم لأن نذير الأول نذير لكل من أتى بعده بأنه إن واقع ما واقعه أتاه ما عذب به {ومن خلفهم} وهم من أتى إليهم لأنهم لم يكونوا يعلمون إتيانهم فالخلف كناية عن الخفاء والقدام عن الجلاء وأنهم أتوهم من كل جانب واجتهدوا بهم فاعملوا فيهم كل حيلة فلم يروا منهم إلا العتو والإعراض.
كما حكى الله تعالى عن الشيطان {لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم} (الأعراف: 17) أي: لآتينهم من كل جهة، عن الحسن: أنذروهم من وقائع الله تعالى فيمن قبلهم من الأمم وعذاب الآخرة لأنهم إذا حذروهم ذلك فقد جاؤوهم بالوعظ من جهة الزمن الماضي وما جرى فيه على الكفار ومن جهة المستقبل وما سيجري عليهم، وأتوهم مقبلين عليهم ومدبرين عنهم، وقرأ نافع وابن كثير وابن ذكوان وعاصم بإظهار الذال عند الجيم وأدغمها الباقون.، {أن} أي: بأن {لا تعبدوا إلا الله} أي: الذي له صفات الكمال جميعًا {قالوا} أي: الكفار لرسلهم {لو شاء ربنا} الذي ربانا أحسن تربية أن يرسل إلينا رسولًا {لأنزل} إلينا {ملائكة} فأرسلهم إلينا بما يريده منا لكنه لم يرسل ملائكة فلم يشأ أن يرسل رسولًا {فإنا بما} أي: بسبب ما {أرسلتم به} أي: على زعمكم بأنكم رسل {كافرون} إذ أنتم بشر مثلنا لا فضل لكم علينا.
روي: أن أبا جهل قال في ملأ قريش: التبس علينا أمر محمد فلو التمستم لنا رجلًا عالمًا بالسحر والشعر والكهانة وكلمه ثم أتانا ببيان من أمره، فقال عتبة بن ربيعة: والله لقد علمت الشعر والسحر والكهانة وعلمت من ذلك علمًا وما يخفى علي، فأتاه فقال له: يا محمد أنت خير أم هاشم، أنت خير أم عبد المطلب، أنت خير أم عبد الله، فلم تشتم آلهتنا وتضلل آباءنا؟ فإن كنت تريد الرياسة عقدنا لك اللواء فكنت رئيسنا، وإن كنت أردت الباء زوجناك عشر نسوة تختارهن من أي بنات قريش شئت، وإن كنت تريد المال جمعنا لك ما تستعين به على ذلك، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ساكت فلما فرغ قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم أفرغت؟ قال: نعم قال: فاسمع ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم تعوذ ثم قرأ بسم الله الرحمن الرحيم {حم تنزيل من الرحمن الرحيم كتاب فصلت آياته} إلى أن بلغ قوله تعالى: {فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود} فأمسك عتبة على فيه وناشده بالرحم إلا ما سكت، ثم رجع إلى أهله ولم يخرج إلى قريش فلما احتبس عنهم قالوا: ما نرى عتبة إلا قد صبأ فانطلقوا إليه وقالوا: يا عتبة ما حبسك عنا إلا أنك قد صبأت إلى محمد وأعجبك طعامه، فإن كان بك حاجة جمعنا لك من أموالنا ما يغنيك عن طعام محمد فغضب عتبة وأقسم لا يكلم محمدًا أبدًا، وقال: والله لقد علمتم أني من أكثر قريش مالًا ولكني أتيته وقصصت عليه القصة وجاءني بشيء والله ما هو شعر ولا كهانة ولا سحر وقرأ السورة إلى قوله تعالى: {فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود} فأمسكت بفيه وناشدته الرحم حتى سكت، ولقد علمتم أن محمدًا إذا قال شيئًا لم يكذب فخفت أن ينزل عليكم العذاب.